الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في "مرّ وصبر": السهيلي يتمرد على المتفق عليه ويصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى

نشر في  04 ديسمبر 2014  (10:01)

بعيدا عن النهايات الهوليودية وعن الانتصارات السينمائية السخيفة، رسم المخرج نصر الدين السهيلي في فيلمه الجديد «مرّ وصبر» والذي عرض في إطار الدورة 25 لأيام قرطاج السينمائية، مشهدا سينمائيا موسوما بندوب الحياة وبجراحها الصغيرة كما الكبيرة.

ففي "وكالة" بأحد الأحياء الشعبية، تعيش صالحة النصراوي وابنها المعاق وطليقها منير الذي طرد من الجيش (عاطف بن حسين) والكفيف توفيق الغربي والمجنونة نجوى ميلاد والصبّاغ محمد علي دمّق. في هذا الفضاء الضيق، تزدحم الحياة بأوجاعها اليومية قبل أن تحلّ ساكنة جديدة، وهي طالبة لم تتمكن من التحصل على مبيت جامعي (مريم الصياح)، تأتي لتعزّز آلام هذا الفضاء بآلام جديدة وفقا لأقدار لا يعلم بخفاياها إلّا الغيب.

 ومن خلال هذه العيّنة من الشخصيات، يحاول نصر الدين السهيلي رصد ملامح "فوضى انسانية" يُستعصى فهم أسرارها، فهذه صالحة النصراوي تضطر للرقص في ملهى ليلي لتُعيل ابنها الصغير، وهذا عاطف بن حسين يبيع جسده لصديقه بلبل (إبراهيم زروق) لتوفير شئ من المال، وهذه براءة الطالبة مريم الصيّاح تتدعثر في عالم غريب الأطوار.

 ويدفع المخرج بالمتفرجين الى قلب العبثية، عندما يصوّر قصة الحب المستحيلة التي جمعت منير (عاطف بن حسين) بـ (مريم الصيّاح)، فكيف لقصة حبهما أن تنجح وهما محاصران ماديا ومحاطان ببحر من المشاكل والعوائق؟ وكيف لهما أن يحبّا بعضهما في هذا الزمن الوغد؟

بحسه الثائر الذي يرفض المهادنة، تمرد السهيلي على "المتفق عليه" فإقتلع القشور ليظهر النسغ الحي وما يعتمل في الدواخل من أحاسيس ضارية بالرغبة وبالعجز وبالألم، فصوّر الشبق والإحباط والوجيعة في بدائيتها الأولى، تلك التي لا تترك مجالا للنفاق او للخداع.

ويطرح السهيلي هكذا عدة قضايا اجتماعية ومنها قضية التهميش الذي يحكم على الفرد في مجتمعنا بأن يبقى أسير وضعيته الاجتماعية البائسة دون أيّة امكانية للتحسين، وقضية حرية الجسد والمواضعات الاجتماعية فضلا عن تيمة الحب، هذا الشعور المفعم الذي تصيبه ظروف الحياة القاسية بسهام المرارة.

 ويوجّه السهيلي عبر فيلمه رسائل عديدة الى من اختاروا تجاهل مشاكل البلاد وطمس أنّات العباد. فكيف للانسان أن يعيش بكرامة إن لم يتمكن من إيجاد مورد للرزق، وكيف له أن يكون مرتاح البال إذا كانت حرّيته الجسدية محدودة، وكيف له أن «ينجح» إذا لم تتوفر السّبل لذلك؟

ويمكن القول إن خيار «الوكالة» كفضاء للتصوير لم يكن اعتباطيا بما أنّه يرمز لهذا الفضاء المصغر الذي يجمع عيّنة من الحالات الاجتماعية التي تعاني في صمت بعد أن لفظها المجتمع، وقد بات الماخور والملهى الليلي يمثلان مُتنفسيها الأساسيين ومصدرا لرزقها.

 ولئن اتسمت شخصيات السهيلي بغياب الشاعرية بحكم ظروفها الاجتماعية القاهرة، فإن الفيلم طُبع في مجمله بشاعرية رقيقة بفضل طريقة تصويره وموسيقاه (أدار التصوير على بن عبد الله وأعدّ الموسيقى ربيع الزموري) حيث يلج المتفرج إلى عوالم السهيلي الخلفية من خلال الاضواء والالوان والالحان التي رافقت كل مشاهد الشريط وأعطته طابعه الخاص.

 كما لا يمكن ان نغفل على الأداء المميز للممثلين والذي أعطى للفيلم كل قوته، ونذكر بالخصوص أداء عاطف بن حسين الذي كان فجّا، محبّا، سكيرا، عنيفا، ضعيفا، ومزج بين طباع الرجل صعب المراس والرجل حبيس وضعيته، فضلا عن أداء صالحة النصراوي التي جمعت بين الرجولة والانوثة وقد ذابت فيها هذه الصفات لتُشكل هي الاخرى حالة اجتماعية صعبة المجاراة لما فيها من قوة ورقّة في نفس الوقت.

ونحن نغادر قاعة العرض، همست احدى الشابات لمرافقها قائلة إن مخرج الفيلم لا يمكن إلّا أن يكون «مجنونا» ليتطرق لمثل هذا الفوضى البشرية، وهي فوضى صوّرها نصر الدين السهيلي بالقدر المستحب من الجنون، جنون عالم فاقد للصواب، مضطرب، داكن الصباحات والامسيات، استبيحت حقوق ناسه حتى أضحت أبسط الامنيات مستحيلة التحقيق، كأن تحبّ، كأن تجد شغلا، كأن تداوي ابنك المريض، كأن تصعد الى أعلى الصومعة وتقول «أنا إنسان، أنا حرّ».

رقصة أقدار موجعة هي التي صوّرها نصر الدين السهيلي في «مرّ وصبر»، موجعة بما يُعانيه أبطاله من ضياع ومن إحساس بالعجز على الخروج من المتاهة التي وضعتهم فيها الحياة. رقصة ضارية عنيفة لم يسع فيها السهيلي الى تنميق الكيانات وتجميلها بقدر سعيه الى نقل صورة فجّة ومعبّرة لمعاناة من يجدون أنفسهم حبيسي حلبة إجتماعية ضيقة قوامها التهميش والحرمان.


شيراز بن مراد